المقالات

البحث اليوم والتقنية الحديثة

اقرأ في هذا الموضوع
  • يفخر بعض أساتذتنا أنهم أنجزوا ما أنجزوا من دراسات جادة عميقة في زمن لم تكن التقنية تعينهم على شيء كما هو الحال الآن
  • بات الحصول على المعلومة أمراً ميسوراً الآن، وتوثيقها كذلك
  • علينا الاعتراف بوجود باحثي دراسات عليا ممن لا يجيدون التعامل مع التقنية الحديثة

يقتعد كرسيَّه خفيف الحركة، أمامه حاسبه المحمول ذو الشاشة العريضة بدقة عرض عالية، وبجوار الشاشة الحاسب اللوحي الصغير الذي يضم مئات الكتب الإلكترونية، فجأة يتنبه إلى مرجع مهم ليس موجوداً، وخلال أقل من نصف ساعة استطاع بهاتفه الذكي تحميل الكتاب من إحدى المكتبات الرقمية!

كان هذا مشهداً واقعياً لباحث استطاع التكيف مع التقنية الحديثة والاستفادة منها إلى أقصى حد استطاعه.

يفخر بعض أساتذتنا أنهم أنجزوا ما أنجزوا من دراسات جادة عميقة في زمن لم تكن التقنية تعينهم على شيء كما هو الحال الآن. وفي رأيي أنهم جديرون بهذا الشعور، دون أن يعني ذلك التقليل من شأن من خلفهم من الباحثين وجهودهم في عصر التقنية المتطورة. ونحن لو أردنا الاحتكام إلى مقياس كهذا لاستحضرنا أسلافنا حين أخلصوا للبحث والتأليف على ضوء شمعة أو على ظهر دابة مما لا يمكن تصوره الآن، وبالتالي يمكن الغض من شأن كل جهد بحثي في العصر الحديث قبل التقنية وبعدها.

والتقنية بمفهومها العام هنا تشمل استثمار الوسائل الحديثة مثل الحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية ومحركات البحث والاستفادة من تقنية المعلومات والبرمجيات ووسائلها وأدواتها المختلفة في الحصول على المعلومة وتحليلها كيفاً وكماً.

بات الحصول على المعلومة أمراً ميسوراً الآن، وتوثيقها كذلك، بيد أن الحصول على المعلومة الصحيحة صار أكثر تعقيداً، بسبب تعدد وسائل النشر وتقنياته، إلى حد يشبه الفوضى في بعض الأحيان.

علينا الاعتراف بوجود باحثي دراسات عليا ممن لا يجيدون التعامل مع التقنية الحديثة، أو لا يعترفون بها! وما تزال الإحالة إلى موقع إلكتروني موضع قبول ورد عند الكثير من الأساتذة المحكّمين حتى الآن.

ورغم وجود التقنية وإفادتها الباحثين بصورة ملموسة واضحة، لا يمكن القطع بأن لها دوراً في ظهور البحث بصورة جيدة إلا في نطاق ضيق جداً، من حيث استعمال الرسوم البيانية وبعض ميزات التحرير الكتابية. فالبحث الجيد هو البحث الذي تكاملت منهجيته بصورة واعية لإنتاج معلومة جديدة غير مستهلكة، وهذه الصورة المشرقة للبحث وجدت قبل التقنية وبعدها، فما الفرق الذي أوجدته التقنية إذن؟

الجواب أن دور التقنية يكاد يقتصر على توفير الجهد والزمن، دون تدخل في جودة البحث، التقنية لها دور في تسارع البحث العلمي وليس جودته. فمثلاً، يستلزم التعرف على معنى كلمة معينة في معاجم اللغة العودة إلى ثلاثة معاجم أو أكثر، بينما يمكن معرفة جميع معانيها من خلال كل المعاجم المعتمدة بضغطة زر واحدة وفي نافذة واحدة في موقع الباحث العربي www.baheth.info.

إن دخول التقنية في عالم البحث العلمي أدى إلى تغيير في شخصية الباحث سلباً وإيجاباً، فسرعة تعاطيه مع البحث وإنجازه وفق المنهج العلمي المتزن إيجابية كبرى تُحسب للتقنية، غير أن الاعتماد على التقنية من الممكن أن يسبب شللاً لبعض المهارات البحثية المعوَّل عليها سابقاً، والتي تضيف لصاحبها خبرة يعتد بها في كل زمان، فعلى سبيل المثال: يعد تحليل الاستبانات يدوياً عملية مهمة ومهارة عالية لا يتقنها الجميع، في حين أنه يمكن الاعتماد الآن على برنامج مُعد من أجل هذه العملية إلكترونياً دون الحاجة إلى فهم عميق من الباحث لحيثيات التحليل. وغير بعيد عن هذا الأمر مهارة تخريج الأحاديث النبوية من الكتب الحديثية المعتمدة، إذ إن لها طرقاً ووسائل عديدة يتفاوت في إتقانها الباحثون، والواقع يشير إلى أن تطبيقات التقنية أصبحت ذات أثر كبير في تخريج الأحاديث دون الحاجة إلى باحث يجيد التخريج، ويمكن توسيع الدائرة لتشمل معاجم اللغة. يمكن أيضاً الإشارة هنا إلى أن تسهيل الاستفادة من المعلومة بالنسخ واللصق، أدى إلى ظهور مشاكل حقيقية فيما يتعلق بالأمانة العلمية، أو غياب المنهجية العلمية في حدود الأخذ من جهود الآخرين.

من جانب آخر، يمكن القول إن متعة البحث قديماً وحديثاً يكمن أغلبها في إنجازه على الوجه المراد، والعناء الكامن خلف صعوبة الوصول إلى المعلومة سابقاً، أصبح يوازيه عناء الاستعداد لاستقبال المعلومة، كالحصول على آخر تحديثات للتقنية، والاشتراك مقابل رسوم مفروضة، وتملك أدوات تناسب التقنية الحديثة كالحاسب المحمول أو الكفي والماسح الضوئي المتنقل وغير ذلك.

المكتبات الرقمية والبرمجيات و(الويكيبيديا) والكتاب الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي والسحب الإلكترونية.. وغيرها؛ كل ذلك بين يدي الباحثين اليوم، مما جعل صعوبة البحث تتركز في دائرة أخرى، المهارات المطلوبة اليوم تختلف عن مهارات الأمس، صار الباحث مطالَباً الآن بمهارة البحث عن الموضوع الأنسب للدراسة، وبتفاعل أكبر في إنتاج البحث، وبدور أهم في نشره وإثارة الأسئلة حوله، وذلك في مقابل إتاحة كل الأدوات المعينة على الوصول إلى المعلومة المناسبة. أعتقد أن التقنية جعلت الباحثين أمام تحدٍ أكبر، فعلى قدر الفائدة التي يجنيها الباحثون منها لابد أن تكون النتائج مثرية وملموسة.

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *