من هموم الرسائل العلمية!

انتظر قليلاً وسيمكنك إعداد رسالتك حينئذ»، كان هذا رد أديب شهير وهو على فراش الموت، وقد توفاه الله، اتصل به أحد طلاب الدراسات العليا، ليجمع بعض المعلومات عن أدبه، ثم أبدى له عقبة كبيرة تعترضه، وهو أن دراسة أدب الأحياء غير ممكنة حسب منهج الجامعة التي يدرس فيها!
ما ذكرت أعلاه يتكرر كثيراً، والحل يسير جداً إن أردنا ألاّ نصطدم بالتنظيمات الداخلية، وهو أن تكون الدراسة معنية بعناوين محددة من الكتب والمؤلفات، وليست عامة يمكن أن يُفهم منها شمول الدراسة لكل نتاج الأديب، الذي قد يضاف إليه يوماً ما ما يمكن أن يغير السمة العامة لأدبه.
ومما لا يُحمد في رسائل الدراسات العليا، أن تكون الدراسة فيها موضوعية، لا تعتني بالفن إلا لماماً، وشاهد ذلك أن تجد ثلاثة أرباع الرسالة في الشرح المدرسي، ونثر الأشعار، حتى إذا قرب الباحث من فصل الدراسة الفنية، وجد القارئ تدهوراً واضحاً في عناية الباحث ونفَسه. وهنا أذكر مقولة مهمة مفادها: أن الباحث في بداية مشواره العلمي، إن أراد أن يبني نفسه بعناية، فليجعل دراسته فنية خالصة، قد يكون هذا من العسير طلبه بدءًا، ولكنه الأفضل على مستقبل هذا الباحث.
ومن الآفات أيضا، تكرار المقدمات النظرية في كل فصل، وحشد الأقوال النقدية للقدماء والمحدثين، من أجل زيادة عدد المصادر والمراجع، أو عدد الصفحات، وكل ذلك لا يغني القارئ في شيء، وما هو إلا تكرار معيب، وحشو يمكن الاستغناء عنه، وقد رأيت رسائل علمية لا تتجاوز ثلاثمائة صفحة وفيها من الفائدة ما يغني عن المجلدات.
وقس على ذلك التعريف بالأعلام، سواء في التمهيد أم الحواشي، وكثير من هؤلاء الأعلام مشهور معروف عند العامة قبل المختصين!
بقي أمر مهم، وهو أننا في جامعاتنا في حاجة لمراكز متخصصة، تشتمل على قواعد بيانات محدثة ودقيقة، تفيد باحثي الدراسات العليا في التعرف على الموضوعات التي درست من قبل. وقد يعترض معترض فيقول: لدينا أكثر من مركز ومكتبة في هذا المجال، وأقول له: إلى أي سنة توقف التحديث في قواعد البيانات لديهم؟ وسيجد أن التاريخ مفاجئ جداً.
ويترتب على معرفة الدراسات السابقة، أن يعي الباحث مهمته التي سيقوم بها في رسالته، وهي أن يبدأ من حيث توقف سابقوه، لا أن يعيد ما سُبق إليه، حتى وإن اتسم بالأمانة العلمية. ولا بد أن يبين في أول رسالته وجه التمايز بين دراسته ودراسات سابقيه إن وجدت.
ختاماً، ومن خلال ما رأيت، فإن مهمة الأستاذ المشرف كبيرة، وعنايته بالبحث وبالباحث مطلوبة إلى حد بعيد، ودقة تقاريره حول الأداء ذات جدوى لا تخفى، ولا علاقة بين القراءة للباحث وبين الثقة في إمكاناته، فالمعوّل عليه في كثير من حيثيات البحث، الفن لا العلم، والخبرة لا النقل، وفي كلتيهما لا يستغني الباحث عن المشرف ونصحه وتوجيهه، وفي النهاية، فإنهما لن يعدما الفائدة كلاهما.