قراءة في ديوان (مفارقات رحّال) : بين موقف المفكر ورؤيا الشاعر
نافذة على الإبداع – د. محمد صالح الشنطي
عرض: د. محمد الشنطي
يحتوي كتاب (مفارقات رحال ) للدكتور ماهر الرحيلي على نصوص مغايرة لما اعتدنا عليه في أدب الرحلة؛ فهو ينطوي على حس إبداعي عميق ووعي متقدم في فهم الطباع والثقافات والحضارة الإنسانية وقراءة ثاقبة لنماذج نفسية تخالف ما درج عليه مؤلفو كتب الرحلات من نهج تسجيلي توثيقي في أغلب الأحيان ينقل التجربة بقضّها وقضيضها دون التلبّث عندها ومساءلتها والحوار معها.
والمفارقة في أبسط تعريفاتها تعني اجتماع النقيضين على صعيد واحد منزاحا بلغة الخطاب الأدبي عن دلالاتها الوضعية لتوحي بمعنى جديد لا يمكن إدراكه إلا على هذا النحو الذي تحتشد به الدلالات منداحة في آفاق تأويليّة رحبة .
لقد تنوّعت المفارقة في هذا الكتاب ما بين زمانية ذات طابع تاريخي حينا؛ ومكانية حضارية واجتماعية إنسانية حينا آخر ، وثقافية تربوية سلوكية حينا ثالثا، وشعرية إبداعية في أغلب الأحيان.
المفارقة في بناء النموذج
ولعل أول ما يلفتنا في هذه النصوص ظاهرة جمالية موضوعية تتمثل في بناء النموذج التي تختزل الملامح الجوهرية لشريحة اجتماعية أوطبقة أو ملمح ثقافي أو حضاري أو أخلاقي أو إنساني في شخصية يلتقطها من وسط مزدحم بألوان بشرية متباينة الطباع والأخلاق والانتماءات.
لقد برع الكاتب في بناء النماذج بكافة أنواعها، والأنماط بكافة أشكالها، وأول هذه النماذج الروسي المغترب الذي يلخص المفارقة في طبائع الشعوب (جارو) الذي سرعان ما تفاعلت الكيمياء البشرية وتجاذبت للنفوس فأنتجت ذلك الارتياح بين الكاتب وهذا السائق؛ الأمر الذي دفعه إلى رسم ملامحه بتفاصيلها الجسدية والثقافية والسلوكية كافة؛ فالمفارقة تكمن هنا بين الشرقي المغترب والمحيط المكاني النقيض، ويقابل هذا التناقض تجاذب من نوع آخر فاجتمع النقيضان ليفسرا ذلك التفاعل في الكيمياء البشرية بين الروسي والعربي، وكأن ثمة تواطؤ على الموقف من الآخر الغربي تمثل فيما بعد في تحذيرات (جارو) من ذوي الأعناق الحمراء الذين تنزّ سحنهم العجوز كراهية للعرب والمسلمين، كل ذلك في حاضنة سردية على قاعدة وصفية تصويرية ترسم المشهد بشخوصه الفاعلة وتحولاته وإيقاعاته المتسارعة، كان يمكن أن يبقى (جارو) في إطاره النمطي سائقا عاديا كآلاف السائقين، ولكن الكاتب التقطه بحسه اليقظ فصاغه نموذجا إنسانيا له خصوصيته وسماته المميزة.
المفارقة المفصلية ( المفارقة بين العاطفة والعقل والواقع والخيال)
أما المفارقة الكبرى على المستوى الزمني التاريخي فتحمل رؤية نافذة بصيرة بذلك المشكل الحضاري، فقد كانت الوقائع في سياق زمني حمل بذرة الانعطافة التاريخية الكبرى التي مثّلتها أحداث سبتمبر وما حل بالبرجين الرمزين، وما أسفر عنه ذلك من اصطفاف عالمي له علاقة بالفرز الجيوسياسي الذي كرّس تيمة التناقض بين (الشرق/ الغرب) كما بدت في أعمال الروائيين الكبار عند الطيب صالح في رائعته (موسم الهجرة إلى الشمال) وفي رواية (أصوات) لسليمان فيّاض، كما عند سهيل إدريس في (الحي اللاتيني) وغيرهم، فقد كانت إطارا زمنيا رؤيويا لنصه الكلي.
المفارقة الثقافية السلوكية
من المفارقات الثقافية ذات العلاقة بالسلوك البشري ما رواه الرحّال عن مطعم (سانتياغو) والنادل اليهودي (جاكوب) الذي تناقضت شخصيته السمجة الكريهة مع سلوكه المهني الحضاري، فكان مضرب المثل في الجودة والخدمة المتميزة، وشخصية جاكوب السمجة مع شخصية الطفل الأثير هدية السماء الذي أمتع والديه وخفّف عنهما وطأة الإحساس بالزمن، الطفولة البريئة وثقل ظل الكهل السمج، والثقة المفرطة في مقابل العداء المطلق. وبدت المفارقة ذات وجهين: ما وقر في الأذهان عن شخصية اليهودي الجشع المخادع، وهي فكرة ضاربة في عمق الوجدان منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم واستقر ت هذه الصورة في مخيال الأدباء حيث نموذج اليهودي تاجر البندقية وأدبيات المؤرخين والمفكرين، مثل حسن ظاظا وعبد الوهاب المسيري وغيرهما وما احتشدت به ذاكرة النكبة ومجازر دير ياسين وغيرها وما استقر في الوجدان العربي من كراهية لليهودي الصهيوني المغتصب ثم ما أدركه الشاعر الرحال فوصفه بالسمج، وربما كان ذلك استجابة لما هو مخزون في الذاكرة الجماعية ثم ما لمسه من مهنية عالية ونظام متميز في سلوكه داخل المطعم، صورتان نقيضتان في مفارقة ثقافية نفسية تثير الدهشة.
مفارقات الأمكنة والناس
ثمة مفارقة بين الأمكنة والبشر؛ فالأمكنة لها هويتها وأحيانا عبقريتها كالبشر سواء بسواء، فهي تذكّرنا بالحديث الشريف «الأرواح جنود مجندة من تعارف منها ائتلف ومن تناكر منها اختلف» وقد اختار الرحّال الحديث عن المطارات فهي كالعنوان، والمكتوب يقرأ من عنوانه، أول ما يواجهك وآخر من يودعك كما يقول الكاتب، ويذكرني ذلك بالمثل الشعبي «لاقني ولا تغدّني» ديدن الشعراء ودأبهم الاحتفال بالبهجة والانفعال بما يفيض به الوجدان، يلتقطون الظواهر بأحاسيسهم الداخلية المرهفة، ورحّالنا شاعر يحتفي بصدق المشاعر وصفاء القلوب، فيسجل في واحدة من ومضاته جملة مفارقات: أولها فقدان التجاذب بين مطارات الأوطان ونفوس السكّان، والمفارقة الثانية الانسجام بين المكان والإنسان، مثل مطار شيكاغو، وهو يتسم بما يناقض التوافق المفترض بين المكان ومحيطه الذي يفضي إليه ويعدّ مدخلا إليه حيث الصخب والقلق.
المفارقة الكونية
المفارقة الكونية مناط اهتمام الرحال الشاعر (الأرض/ السماء)، (الحركة/ السكون) و(الصلاة التماسا للحياة الروحية/ السفر التماسا للمنفعة الدنيوية) و(الذكر/الأنثى)، تلك سلسلة من المفارقات يسوقها الرحّال في خواطره الممعنة في سفرها إلى ما وراء المحسوسات من مطارات السفر إلى فضاءات الروح .. مفارقة تلو الأخرى (الخشوع والعجلة) و(الاستقرار والتحليق بأجنحة القدر).. (الشعائر التعبدية والطقوس السلوكية) مفارقة بين الذي يصلي مستغرقا في أداء الشعيرة والآخر الستيني الذي يصمت ويكف عن القراءة احتراما لهذا التعبّد، كلاهما في محراب الخشوع يتعبّد على طريقته .
مفارقة (الفطرة والبساطة/ التكنولوجيا والحضارة)
استمرارا للرؤية التي تتكئ على المفارقة سبيلا للتعبير والتنوير ثمة حنين إلى حضارة البساطة والفطرة في بلاد التكنولوجيا وحضارة المال والأعمال: المفارقة التاريخية بين وقائع الحروب الدينية الصليبية وما أفرزته من وعي يقوم على احترام الخصم المتحضّر ذي العمق الثقافي التاريخي: النقيضان العدو الذي أصبح صديقا والخصم الذي تحول إلى رفيق، كل ذلك يحدث في( نيس) في زيارة لبقعة شعبية تزدحم بعبق الإرث الإنساني، فالكاتب يستغرق في قراءة التاريخ بأبجدية الجغرافية التي خطتها يد الزمن وسطرتها مفارقة أحداثه .
عالم النفس وعالم الواقع
من المفارقات عميقة الأثر تلك التي تتعلق بأقاليم الداخل (العالم النفسي الجواني) حيث الخوف الرابض في أقبية الأعماق والشجاعة الطافية على السطح، المغامرة الجريئة المزلزلة التي يخوضها مع سمك القرش ولرؤية التي تنجلي عن الصورة البطولية التي تتكون في خيال الأبناء عن الآباء، ومفارقة القوة والضعف، تلك سياحة داخلية مفارقة للسياحة الخارجية، الغوص في أعماق الماء والتسلل إلى سراديب النفس في أكثر حالاتها حرجا وأعمقها خصوصية، تللك سياحة أخرى حملنا إليها الرحّال الشاعر .
مفارقة الفقد والامتلاك الحرية
مفارقة (الغياب الفقد والامتلاك الحرية) تلك التي أراد أن يعبر بها الرحّال عن توقه الأزلي إلى الأم (الحضور المطلق) في حضن الشوق الأزلي و(الغياب المطلق) ممثلا في الموت و(الغياب المحدود) الذي يعبر عنه السفر، تلك مفارقة تثقل الوجدان الإنساني، يعبر عنها شاعرنا الرحّال الذي تفضي به تأملاته إلى حوار متصل مع الذات والآخر المتلقي، وهذا رؤية ذات طابع وجودي تلامس جوهر الكينونة الإنسانية في ارتطامها بالحقائق الكبرى، حقيقة الموت والحياة وما يلمّ بها من تغيّرات وتحولات؛ أما الحرية فلها شأن آخر إنها الامتلاك أي الحضور بأوسع معانيه .
الشعر / السفر
هل الشعر قرين السفر؟ «ويبقى الشعر ما بقي السفر» تذكرني هذه العبارة التي ختم بها الرحال أطروحته (مع الكبار) بقول الشاعر «ويبقى الود ما بقي الحياء»، الشعر في حد ذات سفر إلى عوالم أخرى يهجر فيه الشاعر عالمنا هذا الرتيب إلى عالمه الخاص الذي يزرعه بما يسكن كلماته من جمال النفس ورؤى الفؤاد وتجّليات الخيال.، في حديثه عن الشعرثمة أسماء كثيرة ذكرها، لم يعلق في ذهني سوى كلماته عن الفاتنة التي تهدي صورتها غير المكتملة لمن يعيش تفاصيلها التي تتحول إلى حياة غزيرة يصنعها الشعر؛ تلك رمزية تتأبّى على خيال القارئ الذي لم يتعود على الإبحار في محيطات الشعر وقاراته المجهولة، المفارقة تكمن في واقع مشاهد مثقل بالأسماء والانتظار، وآخر متخيل يهطل بغزارة في غير ميعاد . هنا تتداخل العوالم وتتفجّر المفارقات وتقل حاجتنا إلى التعرف على (إنترلاكن) و(لوسبرين) و(مومارت) لقد حملها الرحّال في حقيبته الشعرية كما حمل استنبول و(البندقية) في نصوصه الشعرية التي سكنتها هذه الأماكن .
المرأة مفارقة (الثقافة والعادة)
لافت ذلك الحديث عن المرأة في مذكرات الشاعر الرحّال؛ والمفارقة التي لمحتها كانت في الخطاب الذي لاذ بالثقافة تسويغا لبعض الظواهر التي تثير الاستغراب لدى الآخر الغربي، المفارقة استدعاها الاختلاف في تفسير الحالة: هل يمكن اعتبارها منتمية للثقافة (ألتنوّع في السلوك الإنساني) أو الثقافة (الاختلاف في الآراء الفقهية) هذه إشكالية بالتأكيد، أما تبذّل المرأة الغربية والمفارقة في لباس المرأة الكورية فتكمن في النظر إلى الخارطة الجسدية للمرأة التي تحرص على احتشام النصف العلوي ولا ترى بأسا في التسامح مع الجزء السفلي، فتلك ظاهرة مثيرة للاستغراب حقا. والمفارقة في الموقف من النقاب بين السائحة الأمريكية والشاعر الرحال: إنها المفارقة الثقافية.
مفارقة الفن / الفقر
الفقر والفن، مفارقة أخرى. هل يبدع الجائع؟ الفن عابر للفقر هذه هي المفارقة التي يستكشفها الشاعر الرحال.. خصوصية التجربة وسلطان الطبع: فنون أحفاد الهنود الحمر والغجر هي ما يلفت الانتباه، الإبداع ذو الطابع الشعبي الذي ينتشر في الطرقات والحارات قرين الفاقة والحاجة أم صنو العفوية والفطرة؟ مفارقة تجسدها تجارب المشاهدات في سويسرا وأسكوتلندا والكهل الستيني رث الثياب كما وصفه الكاتب ،الفنان الفقير الذي لا يأبه للفقر ولكنه يمتنّ لكل من يقدر فنه فيحسن إليه، نموذج إنساني رفيع المستوى يجسّد مفارقة طرفاها نقيضان كما قد يتبادر إلى الذهن : الفن بما هو رقي في الذوق والحس وامتلاء وثراء ،والفقر الذي يزري بكينونة الإنسان وينحط بها إلى درك الفاقة والحاجة .
مفارقة الجودة الشهرة
الجودة من الهموم الرئيسة التي تشغل الكاتب، سبقت الموقع الأكاديمي المتصل بها الذي تبوّأه الكاتب فيما بعد، وتكمن المفارقة في اليد المرتعشة هيبة من لجنة الخبراء التي كلفت بتقييم المحاضرة، وهو ما يناقض المركز المتميّز للمحاضر، والمفارقة الثالثة تكمن في رؤيتنا للأستاذ الجامعي الذي ننظر إليه على أنه فوق التقييم، ولعل للمسألة وجها آخر تتصل بطبيعة الإنسان الشرقي الذي طبع على الإعلاء من شأن البعد المعنوي، والطبيعة البراجماتية للسلوك الغربي الذي يزن كل شيء يميزان المنفعة، فالمسألة ترتبط بجوهر البنية الثقافية والنفسية .
بعد هذه المفارقات والحوارات مع الأماكن والمعالم والبشر والوقائع والثقافات يرتد الرحّال الشاعر إلى الذات يخاطبها ويسائلها في مونولوج شعري بعد أن استغرق طويلا في دراما السفر في الأمصار والأفكار، ومن الطبيعي أن تتكئ سيمفونية الختام على ركائز دلالية ثلاث أخذت بناصية الخطاب الزمان والمكان والإنسان في بث حي على قارعة السفر .